كتبتها مارو فامفوناكيس
ترجمها عن اليونانية زكري العزابي
[ولدت مارو فامفوناكيس في جزيرة كريت، حيث قضت سنوات طفولتها، ثم درست القانون، وفور تخرجها عام 1972 عملت في جزيرة رودس لأحد عشر عاما. لها عدد من الروايات، مثل "يوميات حالة زنى"، و"عام سعيد يا حبيبتي"، و"الوحدة مصنوعة من تراب". كما أن لها عددا من المجموعات القصصية مثل "رئيس ملائكة المقهى"، و "هذا السلم لا يهبط"، و "قصص ذات نهاية سعيدة"، والتي منها القصة التالية. وقد طبعت كل أعمالها ـ تقريبا ـ مرات متعددة].
الغرفة تشبه صالونا من الطراز القديم، الأثاث من طراز قديم مفكك، وثمة دولاب بوفيه في نهاية الغرفة، ذو زوايا منقوشة على هيئة رؤوس أسود، وقطعة قماش مطرزة فوقه، وباقة ورد بلاستيكية مغبرة في زهرية من الزجاج.
الستائر أيضا قديمة، ومرسوم على حوافها جرار صغيرة مدورة، والأرضية خشبية عارية. إنها بداية الصيف، وقد تم رفع البسط، وثمة شيء مهمل ومنسي هناك.
الوقت غسق.. والضوء القادم من الخارج يعطي بصعوبة إنعكاسا أحمر للأشياء. يجعلك تحس بأن الغرفة التي توجد في مكان ما من المدينة، مفصولة، مثل شيء منسي منذ زمن وقد علاه الغبار.
المرأة التي تدخل الغرفة شابة إلى حد ما، وقد ارتدت ملابسها بعناية، وصففت شعرها علىنحو جيد. وجهها الشاحب مصبوغ بكثافة. جلست على الأريكة الكبيرة المغلفة بالقطيفة، وإلى جانبها ـ على الطاولة الصغيرة ـ جهاز هاتف أسود. سوت تنورتها، وأخذت نفسا عميقا، ثم مدت يدها إلى السماعة، وشرعت تجمع رقما معينا ببطء، ثم تنتظر الرد.
ابتسمت فجأة بسعادة..
ـ هل أزعجك..؟ إنني اسأل.. هل أزعجك؟ حسنا، لن اسألك هذا السؤال مرة أخرى.. دعك من هذا، إنني أعرف بأنك كنت تنتظرني، ومثل كل مرة أتصل بك، أخاف أن تكون مشغولا، وأنني ألهيك عن عملك. حسنا.. أرجوك الآن ـ تضحك في حيرة ـ كما تشاء، سأكف عن هذه المقدمة المهذبة. الحقيقة.. أقول لك، ليس التهذيب الشكلي، إنني أقول لك ما أشعر به، دع.. على أية حال، كنت أفضّل لو اتصلت أنت بي بين الحين والآخر، حتى اتأكد من أنك تحب أن تسمتع إلي ـ تضحك مرة أخرى ـ حسنا.. حسنا، أعرف ذلك، ولكن مجرد أنني أردت أن تقوم أنت بالإتصال بي ذات مرة، لأحس بأنك تبحث عني، ربما أنا المخطئة، لأنني لم أعطك الفرصة لكي تبحث عني ـ تضحك مرة أخرى بنعومة ـ لا أخفيك أنني أحيانا أحسد النساء اللواتي يتميزن بالهدوء، ويعرفن كيف يتحكمن في قدرهن مثل سحرة السيرك، ويستطعن تحقيق ما يردنه.. ويفعلن ما يرغبن به. ماذا أعني؟.. أعني لو أنني كنت أنا أيضا امرأة تتميز بالهدوء، لربما استطعت التحكم في ذاتي أحيانا، ولا أتصل بك، لأرى بعد كم من الوقت ستشرع في البحث عني؟.. هل ستبحث عني..؟. تضحك بصوت عال وبعصبية، وتمد يدها لتسوي شعرها. حسنا.. حسنا.. كان لدي عمل كثير في الصباح، كان على أن أنفذ عددا من الطلبيات، وأن أعد وصولات بالأسعار. عمل مزعج، وخال من الإبداع تماما، ودون أي تغيير منذ أحدى عشرة سنة. لا يعجبني أن أتذمر، ولكن كان باستطاعتهم أن يضعوا مكتبي قرب نافذة ما، لكي أرنو إلى الخارج بين الفينة والآخرى. ماذا؟.. نعم.. بالطبع.. يوجد فقط حائط رمادي في الخارج.. اعرف ذلك. ولكنه (الخارج) حتى ولو كان الأمر كذلك. منذ إحدى عشرة سنة، ومكتبي في غرفة دون نافذة واحدة، أعمل باستمرار في ضوء الكهرباء. أحيانا يختلط الأمر على، فلا أعود أميز الصباح من المساء. الصيف..؟ أعرفه.. من أزيز المروحة، حسنا.. ليكن الأمر كذلك، فلا أريد أن أتذمر وأتعبك معي.. ليس وقتا طويلا على أية حال.. سبع ساعات فقط في اليوم، وباقي ساعات اليوم هي ملك لي.. ملكي تماما. أحيانا تبدو لي طويلة وفارغة، حتى أنني أفضل عليها العمل في ضوء المصباح الكهربائي.. حدثني الآن عنك أنت.. ماذا عنك أنت؟.. كيف قضيت اليوم..؟ ماذا فعلت..؟ لا.. لا.. إنني لا أحقق معك، إنني اسأل من واقع إهتمامي الحقيقي بك، يروقني أن أعرف ماذا تفعل، أين توجد، كيف ومتى أفكر بك.. أنا.. يروقني أن أحدثك عن شئوني.. اسألني عن أي شيء. بالعكس.. يروقني أن تضايقني ـ متذمرة ـ حتى أنك لا تسألني كثيرا، ستقول لي بأنني لا أعطيك الفرصة لكي تسأل، إنني دائما متلهفة لكي أقول لك كل شيء. حتى إنني لا أتمكن من إثارة إهتمامك بشيء محدد، فأنا لا أفكر في أكثر من أركض لكي أحدثك بكل ما يحدث لي، وأظل قلقة حتى أحكي لك كل شيء، كم أتمنى لو أتمكن من الصمت، أن أشبه (أبا الهول)، كله أسرار.. سأثيرك عندها.. هه.. ألن أثيرك؟؟
أحيانا أقرر أن أفعل ذلك، ولكنني لا أستمر طويلا.. وكلمة تجر كلمة، أبدأ في الثرثرة، ويأخذني المنحدر. إحدى زميلاتي في المكتب قالت بأن المرأة عبارة عن كتاب ـ تضحك ـ نعم.. مثل الكتاب.. ماذا أريد أن أقول..؟ قالت بأنك إذا ما قرأت الكتاب القيت به، ولكنه يظل مثيرا للإهتمام إذا لم تقرأه بعد. نعم.. هكذا إذن.. هل تعتقد بأن ثمة كتبا تخلق إهتماما مستمرا لا ينقطع..؟ ليست كثيرة ـ وبنوع من الغرورـ أنا واحد من هذه الكتب.. كم أتمنى ذلك حقيقة.. دعك من هذا.. اتسخر مني.. هذا تهذيب منك ـ تغرق للحظات في الصمت ـ ولكنني أتمنى على أية حال، لو تتصل بي أنت ذات مرة، أن يرن الهاتف فجأة، ودون توقع او انتظار، وتكون أنت المتصل، حتى في الليل.. أو قبيل الفجر.. أن يرن الهاتف فتكون أنت.. ليكن.. أعرف.. أنتم الرجال علاقتكم سيئة مع جهاز الهاتف، لا أدري لماذا تحتقرونه هكذا.. ماذا ألبس..؟ كيف خطر لك ذلك الآن؟ ألبس تنورتي الحمراء، وقميصا أبيض.. نعم.. نعم.. عقد اللؤلؤ.. لا.. لا.. إنها ليست لألئ حقيقية، لقد قلت لك ذلك من قبل.. مقلدة.. ولكنها جيدة. من أهداه لي؟؟.. جدتي.. ولماذا لا تصدق ذلك..؟ إنها الحقيقة.. إنه هدية من جدتي في أحد أعياد ميلادي.. ارجوك.. لا تترك العنان لغيرتك الآن.. ولكن.. نعم جدتي.. لا جدي، ولا عمي ـ تضحك بنوع من الغرورـ لا يوجد ابن عم.. من فضلك إنك تهينني.. أتتخابث معي مرة أخرى..؟ حسنا.. لن ألبسه ما دام يسبب لك تحسسا. أرأيت كيف اصبح الجو حلوا ـ تجذب طرف الستارة قليلاـ لقد غربت الشمس، وبعد قليل يهبط الليل.. ليس لدي ما أفعله الليلة.. لا .. ستعمل؟؟.. تستطيع أن تأتي إذا أردت، في الساعة التي تروقك.. أنا أيضا أستطيع أن آتي وأبحث عنك.. لا.. أقول لك.. لا.. لا يهمني في أية ساعة.. يكفيني أن أراك.. نعم.. نعم.. أريد ذلك كثيرا.. كثيرا جدا.. لا تثيرني الآن.. فلم ير أحدنا الآخر منذ وقت طويل.. حسنا.. أعرف أنه العمل.. أعرف.. ولكن حتى لساعة واحدة.. لم تبق لديك حتى ساعة واحدة لي..؟ ـ توقفت عن الضحك تماما، وبدأ شعور بالقلق يسيطر عليها، وبدت عصبية.
ـ ماذا..؟ لم تبق لديك حتى ساعة واحدة قلت لي..؟ في البداية كان الأمر مختلفا، لم تكف عن أن تطلب مني الخروج معك، أتذكر..؟ لا.. أنا أذكر ذلك للأسف.. أذكر تماما.. كنت تغضب إذا لم أترك كل شيء من أجلك.. كنت أتظاهر بأنني قلقة، ولكنني كنت سعيدة جدا.. سعيدة وفخورة بأنك كنت تحبني كثيرا.. لا أستطيع أن أفهم.. ماذا تغير..؟ ما الذي دخل في الوسط..؟ ما الذي جعلك تتغير..؟ لا تصرخ من فضلك.. إستمع إلي.. إنني أحاول أن أكون هادئة.. لا.. لا.. سأكون هادئة، ولكنني سأقول لك كلمتين تكادان تخنقانني.. إنني لا أعتقد أن التملك وحده هو المهم.. لا يمكن أن تروقنا فقط بداية علاقة ما، لأن ما يأتي بعدها له أهميته أيضا.. لا.. لا.. إنني لا ألقي خطابا.. لا.. لا.. كما أنني لم أبدا في إلقاء قصائدي مرة أخرى.. أقول لك الحقيقة.. إنني أقول لك ما أحس به. وإذا لم أقل لك أنت ما أحس به، فلمن أقول إذن..؟ ليس لدي غيرك.. تعرف ذلك..؟؟ لا يروقني أن أمثل عليك "دراما" الآن.. فليس لدي غيرك بالفعل، وأحس أحيانا بالحاجة لأن أتحدث إليك.. فليس لدي غيرك. آسفة أنني قد ثرت في وجهك على هذا النحو، فلا أعرف كيف أتحكم في نفسي أحيانا.. هل تعتقد بأنني لا أرغب في أن أكون هادئة.. ومحترمة..فقط في المدة الأخيرة.. ثمة شيء ثقيل يدفعني إلى أن أبكي.. أعرف.. الدموع تثير أعصابك.. أضغط على نفسي حتى لا أبكي.. أبكي في الخفاء.. أتظاهر بالضحك.. أكره نفسي على الضحك، وذلك يدفعني إلى حافة الإنكسار.. لا.. ليس من صنع خيالي.. دعك من ذلك.. لا تنزعج من الإستماع إلي.. أرجوك لا تقفل الخط ـ يصبح صوتها أكثر عصبية.. ولاهثا ـ آسفة.. لا أعرف إن كان لدي شيء الليلة.. ربما كنت أبالغ قليلا، إذ تبدو الأشياء سوداء في عيني مؤخرا. فقد بدأ الصيف، والأماسي تزداد جمالا، وأنا أحس بالوحدة.. بأنني مهجورة.. أحس بالخجل. ماذا أفعل بنفسي وحيدة مع القمر.. إذا لم أتحدث إليك سأصاب بالجنون.. لا.. لا تغضب، أشعر بذلك، أنت غاضب، وتحس بالملل.. ليس لديك شيء تقوله.. حسنا.. ألا تحس بشيء أنت..؟ مجرد خاطر حتى.. شتيمة..قل شيئا.. لأنني أحس بالخجل من أنك لا تتحدث إلي. صمتك يجعلني أحس بأنني مضحكة إلى حد هستيري.. حسنا إذن.. أنا كذلك.. ولكنه ليس ذنبي.. إنني كذلك بالفعل.. ابحث في ذلك لتعرف السبب.. فتش في ذاتك بنزاهة.. أتعتقد أنني لا أعرف بأنك تتجنبني في المدة الأخيرة، وتحس بالملل من التحدث إلي.. أتعتقد بأنني لا أعرف..؟ حسنا.. أتظاهر بأنني لا أعرف لأنني بحاجة إلى ذلك.. إنني امرأة بلهاء لا تجرؤ على المغامرة بأن تفقدك.. حتى الألم الذي تسببه لي، ليس لدي القدرة على أن أفقده.. حتى الإهانة. أنا بحاجة إليك، في حين أنك لست بحاجة إلي.. وهذا ليس من العدل في شيء.. هذا غير إنساني.. ولكنني أعرف.. هكذا تصبح العلاقات عاجلا أم آجلا.. نعم إنني أتفلسف الآن.. إنه نوع من الهروب أليس كذلك..؟ ـ ثم ببطء ـ لا تقفل الخط.. إستمع إلي.. يجب أن أقول لك شيئا كنت أخفيه عنك، خفت أن تعتبره إبتزازا، ولذلك لم أقله لك. كنت أرغب أن تأتي إلي بمحض إرادتك.. لا أريد أن تكون لديك أية أفكار تافهة عني، ولذلك أجلت الحديث عنه، ولكن طالما وصلنا إلى هذه النقطة، فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل.. سأقول لك.. وباستطاعتك أن تفسره كما تريد، فقد تعبت أنا من التفسير.. أنا حامل.. كيف عرفت..؟! لقد قمت ببعض التحاليل، اعرف ذلك منذ شهر.. اكيد.. متى..؟؟.. ماذا تعني بمتى..؟ نسيت.. إنه أمر مؤكد.. لقد قلت لك.. لقد فات أوان الإجهاض.. نعم.. نعم.. اعرف ذلك، لقد تركته عمدا.. لماذا؟؟ ولكنني لم أفكر لحظة واحدة في إسقاطه.. لماذا..؟ لأنني أريد الطفل ـ تبتسم بحزن ـ اطمئن.. لا تخف.. لن تكون مسئولا عن أي شيء.. إنها قضية تخص حياتي أنا.. قصة تحدث داخل احشائي أنا شخصيا.. لا تتصرف هكذا، فأنا كبيرة وأستطيع أن أفعل ما يروقني بالطفل.. لا تتصرف هكذا.. اطمئن.. فلن أطلب منك شيئا.. لا.. لن أسقطه.. إن ما يحدث هو ما أريده تماما، هذه قضية تخصني.. يا إلهي.. لم تفعل هكذا..؟ لم أقل لك ذلك من قبل، لأنني خفت أن تضطرني إلى إسقاطه.. هذا لا يهمك.. لن تستطيع.. لقد أبطأت في إخبارك لأنني لم أكن أريد أن تتصرف كما تتصرف الآن.. فتبدو مضحكا وبائسا هكذا.. كنت أحس به في أعماقي.. كنت أعرف بأنك ستفعل ذلك.. نعم.. كنت أعرف ذلك.. توقعت ذلك، ولكنني أجلت الحديث عنه. حسنا.. اهدأ الآن.. هل أنت في حال أفضل الآن..؟ سترى بأن الأمر كله مجرد لا شيء.. سأخرج من حياتك، وستصبح أنت أكثر شبابا.. هذا الحمل هو أفضل فرصة مناسبة للإنفصال، إذ أفتح لك الباب وأقول لك (طر) فتطير، ماذا تريد غير ذلك هه..؟ لا.. لا.. أنا لا أسخر، فممن سأسخر..؟ ماذا.. لم أفهم..!! أرجوك تحدث بوضوح أكثر..آه.. لم أفكر في ذلك.. إذ لم أتوقع ذلك حتى منك أنت ـ تصير أكثر حدة ـ لا.. ليس لأن ما تقوله الآن يؤلمني، حتى لو كنت تقوله دون أن تصدقه، ولذلك فإنني سوف لن أغفره لك.. لن أغفر لك ذلك أبدا. ليكن في علمك بأن.. طالما لا يوجد مبرر لأن تبدو جبانا على هذا النحو، فلماذا تفعل ذلك..؟ إنني لا أطلب منك شيئا، فلماذا تصير بائسا إلى هذا الحد..؟ أنت بائس جدا.. لا.. لم أضطجع مع أحد آخر.. لا.. لم أخرج مرة واحدة دون أن تكون أنت معي.. لقد كنت مرتبطة بك، وملقاة على كاهلك مثل صخرة ثقيلة سوداء.. مرتبطة.. ومخلصة.. ومستسلمة لشخص لم يكن.. لا.. لا أخفيك.. أحس بذلك.. لم يكن الأمر يستأهل.. وإذا كنت تريد أن تعرف بالفعل، فقد كنت أعرف بأنه لم يكن يستأهل.. أنا أيضا ضحكت عليك، واستخدمتك مثل شبه رجل، من النوع الذي يستخدمونه لقضاء حاجات بشرية يحتاجها الآخرون.. احيانا كنت تستطيع ذلك.. نعم.. أحيانا قلت لك.. ها.. ليس دائما.. فلا تعتقد.. كنت أتجاهل ذلك كما ترى.. نعم.. أتجاهل.. لقد سمعتني جيدا. لمن..؟ لي أنا..؟ نعم، لأنني كنت في حاجة إلى ذلك.. قليلا. كان يجب أن أقاوم هذه الوحدة القاتلة في البيت.. لقد تمكنت منك.. لم تكن في أعماقك أكثر من تافه.. نعم.. ذلك الوحش الصغير في داخلنا لا ينام طويلا.. أعرف ذلك.. وقد توقعته.. أعرف الطريقة تماما، في داخل القبل، والتزلف.. بين الكلمات الناعمة. كنت أستمع إليه وتوقعته. الوحش في داخلنا يستيقظ في نهاية المطاف ويلتهمنا. يتركنا عراة ومهانين خارج الجنة.. في الخارج.. في البرد والرتابة. في مكتبي.. حيث الضوء الكهربائي ليلا ونهارا، أحسست بأنني لن أحتمل أكثر من ذلك، وأن ثمة شيء ما يجب أن يتغير. حركة واحدة مهذبة أقوم بها، لتنتشلني وتنقذني.. أمام عيني..! هذا الطفل سوف ينقذني.. لقد كنت على حق.. ورغم كل شيء.. فأنا متحررة من الرغبة فيك تماما. متحررة من أن أضحك منك، أن أروقك وأعجبك، فلم يعد لديك شيء تمنحه لي.. فأنت فارغ، ولا تثير في أية حاجة.. مجرد غثيان لا يحتمل، يدفعني إلى أن أجري وبتعدة عنك.. لم أفهم..؟ ماذا..؟! ليس ثمة شيء لأفهمه، وباستطاعتي أن أقول لك كل شيء.. حسنا ثمة شيء آخر أسوأ من كل ذلك لا تعرفه.. نعم..؟ هو أنك غير موجود.. نعم.. أقول لك.. نعم.. أنا خلقتك من عدم، وأنا أعيدك إلى العدم.. إلى غبار.. هواء.. أعيدك إلى مبتداك.. إلى الصفر.. أنت غير موجود.. أقول لك.. لقد سمعتني جيدا..!! فأنا أتحدث إلى هاتف ميت منذ ثلاث سنوات.. ألا تصدق ذلك..؟ حسنا.. سأثبت لك ذلك الآن. وتجذب سلك السماعة الذي كان مقطوعا بالفعل، ولا ينتهي إلى أي مكان.
ـ هذا الهاتف مقطوع منذ سنوات يا صديقي.. ولا يتصل بأي شيء.. وأنت لم توجد أبدا خارجا عني.. فأنا فقط موجودة.. أنا فقط موجودة.. فقط.
ترجمها عن اليونانية زكري العزابي
[ولدت مارو فامفوناكيس في جزيرة كريت، حيث قضت سنوات طفولتها، ثم درست القانون، وفور تخرجها عام 1972 عملت في جزيرة رودس لأحد عشر عاما. لها عدد من الروايات، مثل "يوميات حالة زنى"، و"عام سعيد يا حبيبتي"، و"الوحدة مصنوعة من تراب". كما أن لها عددا من المجموعات القصصية مثل "رئيس ملائكة المقهى"، و "هذا السلم لا يهبط"، و "قصص ذات نهاية سعيدة"، والتي منها القصة التالية. وقد طبعت كل أعمالها ـ تقريبا ـ مرات متعددة].
الغرفة تشبه صالونا من الطراز القديم، الأثاث من طراز قديم مفكك، وثمة دولاب بوفيه في نهاية الغرفة، ذو زوايا منقوشة على هيئة رؤوس أسود، وقطعة قماش مطرزة فوقه، وباقة ورد بلاستيكية مغبرة في زهرية من الزجاج.
الستائر أيضا قديمة، ومرسوم على حوافها جرار صغيرة مدورة، والأرضية خشبية عارية. إنها بداية الصيف، وقد تم رفع البسط، وثمة شيء مهمل ومنسي هناك.
الوقت غسق.. والضوء القادم من الخارج يعطي بصعوبة إنعكاسا أحمر للأشياء. يجعلك تحس بأن الغرفة التي توجد في مكان ما من المدينة، مفصولة، مثل شيء منسي منذ زمن وقد علاه الغبار.
المرأة التي تدخل الغرفة شابة إلى حد ما، وقد ارتدت ملابسها بعناية، وصففت شعرها علىنحو جيد. وجهها الشاحب مصبوغ بكثافة. جلست على الأريكة الكبيرة المغلفة بالقطيفة، وإلى جانبها ـ على الطاولة الصغيرة ـ جهاز هاتف أسود. سوت تنورتها، وأخذت نفسا عميقا، ثم مدت يدها إلى السماعة، وشرعت تجمع رقما معينا ببطء، ثم تنتظر الرد.
ابتسمت فجأة بسعادة..
ـ هل أزعجك..؟ إنني اسأل.. هل أزعجك؟ حسنا، لن اسألك هذا السؤال مرة أخرى.. دعك من هذا، إنني أعرف بأنك كنت تنتظرني، ومثل كل مرة أتصل بك، أخاف أن تكون مشغولا، وأنني ألهيك عن عملك. حسنا.. أرجوك الآن ـ تضحك في حيرة ـ كما تشاء، سأكف عن هذه المقدمة المهذبة. الحقيقة.. أقول لك، ليس التهذيب الشكلي، إنني أقول لك ما أشعر به، دع.. على أية حال، كنت أفضّل لو اتصلت أنت بي بين الحين والآخر، حتى اتأكد من أنك تحب أن تسمتع إلي ـ تضحك مرة أخرى ـ حسنا.. حسنا، أعرف ذلك، ولكن مجرد أنني أردت أن تقوم أنت بالإتصال بي ذات مرة، لأحس بأنك تبحث عني، ربما أنا المخطئة، لأنني لم أعطك الفرصة لكي تبحث عني ـ تضحك مرة أخرى بنعومة ـ لا أخفيك أنني أحيانا أحسد النساء اللواتي يتميزن بالهدوء، ويعرفن كيف يتحكمن في قدرهن مثل سحرة السيرك، ويستطعن تحقيق ما يردنه.. ويفعلن ما يرغبن به. ماذا أعني؟.. أعني لو أنني كنت أنا أيضا امرأة تتميز بالهدوء، لربما استطعت التحكم في ذاتي أحيانا، ولا أتصل بك، لأرى بعد كم من الوقت ستشرع في البحث عني؟.. هل ستبحث عني..؟. تضحك بصوت عال وبعصبية، وتمد يدها لتسوي شعرها. حسنا.. حسنا.. كان لدي عمل كثير في الصباح، كان على أن أنفذ عددا من الطلبيات، وأن أعد وصولات بالأسعار. عمل مزعج، وخال من الإبداع تماما، ودون أي تغيير منذ أحدى عشرة سنة. لا يعجبني أن أتذمر، ولكن كان باستطاعتهم أن يضعوا مكتبي قرب نافذة ما، لكي أرنو إلى الخارج بين الفينة والآخرى. ماذا؟.. نعم.. بالطبع.. يوجد فقط حائط رمادي في الخارج.. اعرف ذلك. ولكنه (الخارج) حتى ولو كان الأمر كذلك. منذ إحدى عشرة سنة، ومكتبي في غرفة دون نافذة واحدة، أعمل باستمرار في ضوء الكهرباء. أحيانا يختلط الأمر على، فلا أعود أميز الصباح من المساء. الصيف..؟ أعرفه.. من أزيز المروحة، حسنا.. ليكن الأمر كذلك، فلا أريد أن أتذمر وأتعبك معي.. ليس وقتا طويلا على أية حال.. سبع ساعات فقط في اليوم، وباقي ساعات اليوم هي ملك لي.. ملكي تماما. أحيانا تبدو لي طويلة وفارغة، حتى أنني أفضل عليها العمل في ضوء المصباح الكهربائي.. حدثني الآن عنك أنت.. ماذا عنك أنت؟.. كيف قضيت اليوم..؟ ماذا فعلت..؟ لا.. لا.. إنني لا أحقق معك، إنني اسأل من واقع إهتمامي الحقيقي بك، يروقني أن أعرف ماذا تفعل، أين توجد، كيف ومتى أفكر بك.. أنا.. يروقني أن أحدثك عن شئوني.. اسألني عن أي شيء. بالعكس.. يروقني أن تضايقني ـ متذمرة ـ حتى أنك لا تسألني كثيرا، ستقول لي بأنني لا أعطيك الفرصة لكي تسأل، إنني دائما متلهفة لكي أقول لك كل شيء. حتى إنني لا أتمكن من إثارة إهتمامك بشيء محدد، فأنا لا أفكر في أكثر من أركض لكي أحدثك بكل ما يحدث لي، وأظل قلقة حتى أحكي لك كل شيء، كم أتمنى لو أتمكن من الصمت، أن أشبه (أبا الهول)، كله أسرار.. سأثيرك عندها.. هه.. ألن أثيرك؟؟
أحيانا أقرر أن أفعل ذلك، ولكنني لا أستمر طويلا.. وكلمة تجر كلمة، أبدأ في الثرثرة، ويأخذني المنحدر. إحدى زميلاتي في المكتب قالت بأن المرأة عبارة عن كتاب ـ تضحك ـ نعم.. مثل الكتاب.. ماذا أريد أن أقول..؟ قالت بأنك إذا ما قرأت الكتاب القيت به، ولكنه يظل مثيرا للإهتمام إذا لم تقرأه بعد. نعم.. هكذا إذن.. هل تعتقد بأن ثمة كتبا تخلق إهتماما مستمرا لا ينقطع..؟ ليست كثيرة ـ وبنوع من الغرورـ أنا واحد من هذه الكتب.. كم أتمنى ذلك حقيقة.. دعك من هذا.. اتسخر مني.. هذا تهذيب منك ـ تغرق للحظات في الصمت ـ ولكنني أتمنى على أية حال، لو تتصل بي أنت ذات مرة، أن يرن الهاتف فجأة، ودون توقع او انتظار، وتكون أنت المتصل، حتى في الليل.. أو قبيل الفجر.. أن يرن الهاتف فتكون أنت.. ليكن.. أعرف.. أنتم الرجال علاقتكم سيئة مع جهاز الهاتف، لا أدري لماذا تحتقرونه هكذا.. ماذا ألبس..؟ كيف خطر لك ذلك الآن؟ ألبس تنورتي الحمراء، وقميصا أبيض.. نعم.. نعم.. عقد اللؤلؤ.. لا.. لا.. إنها ليست لألئ حقيقية، لقد قلت لك ذلك من قبل.. مقلدة.. ولكنها جيدة. من أهداه لي؟؟.. جدتي.. ولماذا لا تصدق ذلك..؟ إنها الحقيقة.. إنه هدية من جدتي في أحد أعياد ميلادي.. ارجوك.. لا تترك العنان لغيرتك الآن.. ولكن.. نعم جدتي.. لا جدي، ولا عمي ـ تضحك بنوع من الغرورـ لا يوجد ابن عم.. من فضلك إنك تهينني.. أتتخابث معي مرة أخرى..؟ حسنا.. لن ألبسه ما دام يسبب لك تحسسا. أرأيت كيف اصبح الجو حلوا ـ تجذب طرف الستارة قليلاـ لقد غربت الشمس، وبعد قليل يهبط الليل.. ليس لدي ما أفعله الليلة.. لا .. ستعمل؟؟.. تستطيع أن تأتي إذا أردت، في الساعة التي تروقك.. أنا أيضا أستطيع أن آتي وأبحث عنك.. لا.. أقول لك.. لا.. لا يهمني في أية ساعة.. يكفيني أن أراك.. نعم.. نعم.. أريد ذلك كثيرا.. كثيرا جدا.. لا تثيرني الآن.. فلم ير أحدنا الآخر منذ وقت طويل.. حسنا.. أعرف أنه العمل.. أعرف.. ولكن حتى لساعة واحدة.. لم تبق لديك حتى ساعة واحدة لي..؟ ـ توقفت عن الضحك تماما، وبدأ شعور بالقلق يسيطر عليها، وبدت عصبية.
ـ ماذا..؟ لم تبق لديك حتى ساعة واحدة قلت لي..؟ في البداية كان الأمر مختلفا، لم تكف عن أن تطلب مني الخروج معك، أتذكر..؟ لا.. أنا أذكر ذلك للأسف.. أذكر تماما.. كنت تغضب إذا لم أترك كل شيء من أجلك.. كنت أتظاهر بأنني قلقة، ولكنني كنت سعيدة جدا.. سعيدة وفخورة بأنك كنت تحبني كثيرا.. لا أستطيع أن أفهم.. ماذا تغير..؟ ما الذي دخل في الوسط..؟ ما الذي جعلك تتغير..؟ لا تصرخ من فضلك.. إستمع إلي.. إنني أحاول أن أكون هادئة.. لا.. لا.. سأكون هادئة، ولكنني سأقول لك كلمتين تكادان تخنقانني.. إنني لا أعتقد أن التملك وحده هو المهم.. لا يمكن أن تروقنا فقط بداية علاقة ما، لأن ما يأتي بعدها له أهميته أيضا.. لا.. لا.. إنني لا ألقي خطابا.. لا.. لا.. كما أنني لم أبدا في إلقاء قصائدي مرة أخرى.. أقول لك الحقيقة.. إنني أقول لك ما أحس به. وإذا لم أقل لك أنت ما أحس به، فلمن أقول إذن..؟ ليس لدي غيرك.. تعرف ذلك..؟؟ لا يروقني أن أمثل عليك "دراما" الآن.. فليس لدي غيرك بالفعل، وأحس أحيانا بالحاجة لأن أتحدث إليك.. فليس لدي غيرك. آسفة أنني قد ثرت في وجهك على هذا النحو، فلا أعرف كيف أتحكم في نفسي أحيانا.. هل تعتقد بأنني لا أرغب في أن أكون هادئة.. ومحترمة..فقط في المدة الأخيرة.. ثمة شيء ثقيل يدفعني إلى أن أبكي.. أعرف.. الدموع تثير أعصابك.. أضغط على نفسي حتى لا أبكي.. أبكي في الخفاء.. أتظاهر بالضحك.. أكره نفسي على الضحك، وذلك يدفعني إلى حافة الإنكسار.. لا.. ليس من صنع خيالي.. دعك من ذلك.. لا تنزعج من الإستماع إلي.. أرجوك لا تقفل الخط ـ يصبح صوتها أكثر عصبية.. ولاهثا ـ آسفة.. لا أعرف إن كان لدي شيء الليلة.. ربما كنت أبالغ قليلا، إذ تبدو الأشياء سوداء في عيني مؤخرا. فقد بدأ الصيف، والأماسي تزداد جمالا، وأنا أحس بالوحدة.. بأنني مهجورة.. أحس بالخجل. ماذا أفعل بنفسي وحيدة مع القمر.. إذا لم أتحدث إليك سأصاب بالجنون.. لا.. لا تغضب، أشعر بذلك، أنت غاضب، وتحس بالملل.. ليس لديك شيء تقوله.. حسنا.. ألا تحس بشيء أنت..؟ مجرد خاطر حتى.. شتيمة..قل شيئا.. لأنني أحس بالخجل من أنك لا تتحدث إلي. صمتك يجعلني أحس بأنني مضحكة إلى حد هستيري.. حسنا إذن.. أنا كذلك.. ولكنه ليس ذنبي.. إنني كذلك بالفعل.. ابحث في ذلك لتعرف السبب.. فتش في ذاتك بنزاهة.. أتعتقد أنني لا أعرف بأنك تتجنبني في المدة الأخيرة، وتحس بالملل من التحدث إلي.. أتعتقد بأنني لا أعرف..؟ حسنا.. أتظاهر بأنني لا أعرف لأنني بحاجة إلى ذلك.. إنني امرأة بلهاء لا تجرؤ على المغامرة بأن تفقدك.. حتى الألم الذي تسببه لي، ليس لدي القدرة على أن أفقده.. حتى الإهانة. أنا بحاجة إليك، في حين أنك لست بحاجة إلي.. وهذا ليس من العدل في شيء.. هذا غير إنساني.. ولكنني أعرف.. هكذا تصبح العلاقات عاجلا أم آجلا.. نعم إنني أتفلسف الآن.. إنه نوع من الهروب أليس كذلك..؟ ـ ثم ببطء ـ لا تقفل الخط.. إستمع إلي.. يجب أن أقول لك شيئا كنت أخفيه عنك، خفت أن تعتبره إبتزازا، ولذلك لم أقله لك. كنت أرغب أن تأتي إلي بمحض إرادتك.. لا أريد أن تكون لديك أية أفكار تافهة عني، ولذلك أجلت الحديث عنه، ولكن طالما وصلنا إلى هذه النقطة، فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل.. سأقول لك.. وباستطاعتك أن تفسره كما تريد، فقد تعبت أنا من التفسير.. أنا حامل.. كيف عرفت..؟! لقد قمت ببعض التحاليل، اعرف ذلك منذ شهر.. اكيد.. متى..؟؟.. ماذا تعني بمتى..؟ نسيت.. إنه أمر مؤكد.. لقد قلت لك.. لقد فات أوان الإجهاض.. نعم.. نعم.. اعرف ذلك، لقد تركته عمدا.. لماذا؟؟ ولكنني لم أفكر لحظة واحدة في إسقاطه.. لماذا..؟ لأنني أريد الطفل ـ تبتسم بحزن ـ اطمئن.. لا تخف.. لن تكون مسئولا عن أي شيء.. إنها قضية تخص حياتي أنا.. قصة تحدث داخل احشائي أنا شخصيا.. لا تتصرف هكذا، فأنا كبيرة وأستطيع أن أفعل ما يروقني بالطفل.. لا تتصرف هكذا.. اطمئن.. فلن أطلب منك شيئا.. لا.. لن أسقطه.. إن ما يحدث هو ما أريده تماما، هذه قضية تخصني.. يا إلهي.. لم تفعل هكذا..؟ لم أقل لك ذلك من قبل، لأنني خفت أن تضطرني إلى إسقاطه.. هذا لا يهمك.. لن تستطيع.. لقد أبطأت في إخبارك لأنني لم أكن أريد أن تتصرف كما تتصرف الآن.. فتبدو مضحكا وبائسا هكذا.. كنت أحس به في أعماقي.. كنت أعرف بأنك ستفعل ذلك.. نعم.. كنت أعرف ذلك.. توقعت ذلك، ولكنني أجلت الحديث عنه. حسنا.. اهدأ الآن.. هل أنت في حال أفضل الآن..؟ سترى بأن الأمر كله مجرد لا شيء.. سأخرج من حياتك، وستصبح أنت أكثر شبابا.. هذا الحمل هو أفضل فرصة مناسبة للإنفصال، إذ أفتح لك الباب وأقول لك (طر) فتطير، ماذا تريد غير ذلك هه..؟ لا.. لا.. أنا لا أسخر، فممن سأسخر..؟ ماذا.. لم أفهم..!! أرجوك تحدث بوضوح أكثر..آه.. لم أفكر في ذلك.. إذ لم أتوقع ذلك حتى منك أنت ـ تصير أكثر حدة ـ لا.. ليس لأن ما تقوله الآن يؤلمني، حتى لو كنت تقوله دون أن تصدقه، ولذلك فإنني سوف لن أغفره لك.. لن أغفر لك ذلك أبدا. ليكن في علمك بأن.. طالما لا يوجد مبرر لأن تبدو جبانا على هذا النحو، فلماذا تفعل ذلك..؟ إنني لا أطلب منك شيئا، فلماذا تصير بائسا إلى هذا الحد..؟ أنت بائس جدا.. لا.. لم أضطجع مع أحد آخر.. لا.. لم أخرج مرة واحدة دون أن تكون أنت معي.. لقد كنت مرتبطة بك، وملقاة على كاهلك مثل صخرة ثقيلة سوداء.. مرتبطة.. ومخلصة.. ومستسلمة لشخص لم يكن.. لا.. لا أخفيك.. أحس بذلك.. لم يكن الأمر يستأهل.. وإذا كنت تريد أن تعرف بالفعل، فقد كنت أعرف بأنه لم يكن يستأهل.. أنا أيضا ضحكت عليك، واستخدمتك مثل شبه رجل، من النوع الذي يستخدمونه لقضاء حاجات بشرية يحتاجها الآخرون.. احيانا كنت تستطيع ذلك.. نعم.. أحيانا قلت لك.. ها.. ليس دائما.. فلا تعتقد.. كنت أتجاهل ذلك كما ترى.. نعم.. أتجاهل.. لقد سمعتني جيدا. لمن..؟ لي أنا..؟ نعم، لأنني كنت في حاجة إلى ذلك.. قليلا. كان يجب أن أقاوم هذه الوحدة القاتلة في البيت.. لقد تمكنت منك.. لم تكن في أعماقك أكثر من تافه.. نعم.. ذلك الوحش الصغير في داخلنا لا ينام طويلا.. أعرف ذلك.. وقد توقعته.. أعرف الطريقة تماما، في داخل القبل، والتزلف.. بين الكلمات الناعمة. كنت أستمع إليه وتوقعته. الوحش في داخلنا يستيقظ في نهاية المطاف ويلتهمنا. يتركنا عراة ومهانين خارج الجنة.. في الخارج.. في البرد والرتابة. في مكتبي.. حيث الضوء الكهربائي ليلا ونهارا، أحسست بأنني لن أحتمل أكثر من ذلك، وأن ثمة شيء ما يجب أن يتغير. حركة واحدة مهذبة أقوم بها، لتنتشلني وتنقذني.. أمام عيني..! هذا الطفل سوف ينقذني.. لقد كنت على حق.. ورغم كل شيء.. فأنا متحررة من الرغبة فيك تماما. متحررة من أن أضحك منك، أن أروقك وأعجبك، فلم يعد لديك شيء تمنحه لي.. فأنت فارغ، ولا تثير في أية حاجة.. مجرد غثيان لا يحتمل، يدفعني إلى أن أجري وبتعدة عنك.. لم أفهم..؟ ماذا..؟! ليس ثمة شيء لأفهمه، وباستطاعتي أن أقول لك كل شيء.. حسنا ثمة شيء آخر أسوأ من كل ذلك لا تعرفه.. نعم..؟ هو أنك غير موجود.. نعم.. أقول لك.. نعم.. أنا خلقتك من عدم، وأنا أعيدك إلى العدم.. إلى غبار.. هواء.. أعيدك إلى مبتداك.. إلى الصفر.. أنت غير موجود.. أقول لك.. لقد سمعتني جيدا..!! فأنا أتحدث إلى هاتف ميت منذ ثلاث سنوات.. ألا تصدق ذلك..؟ حسنا.. سأثبت لك ذلك الآن. وتجذب سلك السماعة الذي كان مقطوعا بالفعل، ولا ينتهي إلى أي مكان.
ـ هذا الهاتف مقطوع منذ سنوات يا صديقي.. ولا يتصل بأي شيء.. وأنت لم توجد أبدا خارجا عني.. فأنا فقط موجودة.. أنا فقط موجودة.. فقط.
هناك تعليق واحد:
لقد ابدعت بسردك قصه من الادب اليوناني المعاصر بعنوان المكالمه فهي حقيقه تجذبك معها حيث تدخل في اعماقك. وتتخيل انك تستمع او تقوم بنفسك بدور تلك العاشقه لذلك الرجل والذي كان لايساوي عندها شي بعد ان اخبرته بانها ليس له او انهم جميعا كسائر البشر لايرون في بدايه علاقاتهم كيف تكون ولكن ماياتي بعدها له اهميته ايضا. فلقد كان تتجاذب معه طرف الحديث وان كنت اتخيلها بالتنوره الحمراء المسدله او المرتفعه عن اردافها بصورة ما فكانت كما اتخيلها تتكلم له بل كانها تهمس له بان الحديث معه له طعم اخر اذا كان واعني الرجل كان كل شي او كانت هي تحس به ككل شي في حياتها. فاسرت له بان الذي تبوح لي به ماهو الا احساس كان لابد ان تقوله له لانها ليس لديها غيره فلذلك ليس لديها ماتعرفه غيره واسرت له بانها لاتمثل عليه دراما فليس لديها غيره بالفعل وتريد ان تحسسه بالحاجه اليه ومن ثم اخبرته بانها تحمله هو كجنين صغير لا تريد اجهاضه.
لقد لمست هذه الروايه وتر حساس في قلبي فسرحت معها طويل واتسال لماذا تلك الروايه بالذات تسردها في مدونتك علما بانني اتابع تلك المدونه باليوم ومنذ زمن طويل لم تكتب فيها شي الا بعد ان تحصلت علي تلك المكالمه وانت بالطبع تعشق المكالمات
إرسال تعليق