خلال زيارتي الاخيرة لمدينة خرننغن في شمال هولندا حظيت بافطار رمضاني سوداني خالص بفضل دعوة كريمة من احد اعضائها وصديق للعائلة الاخ اشرف عباس. وشملت الدعوة خدمة التوصيل ذهابا وايابا بسيارته من بيتي في ضاحية هوغيزاند والى نادي الرابطة بوسط عاصمة الاقليم خروننغن بمعية شقيق له وصديق آخر عـرفه بلهجة مازحة بـ "اللورد". تلك كانت اول مرة اتناول فيها الافطار خارج المنزل بعيدا عن الاسرة.
كنت خلال الطريق احاول ان اتصور شكل المكان ومدى تشابه او اختلاف السودانيين في خروننغن عن نظرائهم في اثينا باليونان. وصلنا بسرعة بنحو عشرين دقيقة قبل موعد الافطار. اوقف اشرف السيارة في شارع ضيق، ترتفع حوله بيوت متشابهة تشي بمعمار قديم تذكر بما يسمى في اثينا بالمعمار الكلاسيكي الجديد وهو طراز كان موضة الثلاثينيات من القرن الماضي في اليونان. والبنايات الشعبية المتراصة والمتشابهة "زي التعاريف" هي سمة الاحياء الشعبية في العديد من المدن الاوربية. كما انها والمهاجرين كالسترة والبنطال متلازمتان دون فكاك. ومنذ رأيتها ايقنت أنني بصدد دخول بناية لا تختلف كثيرا عن مركز اتحاد الجاليات في اثينا، بطبعها الهادىء البسيط، واجوائها اللطيفة الدافئة. لكننا ما ان هبطنا دلف بنا اشرف الى زاوية قريبة ووجدنا انفسنا في شارع آخر امام مدخل لا يشبه تلك البنايات. باب يدل على شىء اشبه بالمؤسسات العامة، ومنه تجد نفسك امام بهو ينتهي بكافتيريا تحيط بها ابواب عديدة وواحد منها يفضي الى قاعة الافطار.
توزعت في القاعة عشرة طاولات تحيط بكل منها خمسة او ست كراسي. وفي اقصى اليمين رصت مصليات صغيرة في صفين او ثلاثة وفي وسطها صندوق بحجم الكتاب، به عدد من نسخ "جزء عم". كان عدد من الواصلين قبل قدومنا يتلو القرآن، بينما كان البعض يعمل بهمة ونشاط في اعداد الطعام وتوزيعه على الطاولات. ويشمل ذلك ايضا المشروبات التي اختير لها ان تكون على طاولة جانبية طويلة ويتصدرها بطبيعة الحال شراب رمضان السوداني الاول "الآبري" في أواني هي الاكبر. كما كان هناك آخرون يعدون الشاي والقهوة في الكافنتيريا القريب من مدخل القاعة.
بوصولنا كان اعضاء الرابطة ما زالوا يتوافدون الى المكان او "النادي" على حد وصف اشرف. ومع وفود القادمين كنا نتبادل السلام. اغلبهم شباب في الثلاثينيات وربما الاربعينيات على الاكثر، وعدد قليل جدا من الشباب الصغير فيما يبدو انه الجيل الثاني، بينما انعدم اي وجود للنساء. فالافطار كان رجالي مئة بالمئة، وهو اختلاف رئيسي من مناسبات جالية اليونان. بدا الجو هادىء لحد بعيد، والجميع مشغول بامر ما، باستثناء القليلين الذي ظلوا يتجاذبون اطراف الحديث في البهو امام الكافتيريا.
علمت من اشرف ان المكان او "النادي" ليس مكانا خاصا بالرابطة السودانية، وانما مؤسسة عامة تابعة للحي، تمولها البلدية، وتستطيع مختلف الجمعيات الاهلية استخدام قاعاتها لنشاطاتها المختلفة لقاء ايجار زهيد. وقد شجعني ذلك على القيام بجولة صغيرة داخل المبنى خلال الدقائق القليلة المتبقية على موعد الافطار. وفي الحقيقة فان المكان وان بدا منظما الا انه لا يعطيك صورة واضحة عن امكانياته وتجهيزاته ما لم تر بنفسك. وصدق ذلك عندما دفعت بابا غير ظاهر في وسط البهو فوجدت نفسي داخل قاعة مسرح رائعة. وصعدت من درج في وسط البهو الى طبقة عليا فوجدت بها قاعة كبيرة تبدو مخصصة للاجتماعات او المحاضرات. ومجموعة من الغرف الصغيرة المغلقة تبدو مكاتبا مما يشير الى وجود طاقم اداري. وفي نهاية الممر يوجد مطبخ بكل معداته، ومنه كانت تخرج اطباق الطعام.
الموائد كانت سودانية مائة بالمائة. العصيدة وملاحها بنوعيه الاحمر والابيض، والقراصة بنوعين ايضا، والدمعة واللحمة المحمرة وبالطبع الفووول الذي احتل اكبر الصحون في كل الطاولات. ورغم ان النساء كن غائبات عن هذه الوليمة العامرة الا ان الواضح انهن كن حاضرات بانتاجهن بقوة، علما بأني لم اسأل من الطباخ.
لم يكن هناك آذان او اشارة لبدء الافطار، ولكن احد الاخوة الذي كان يجلس في طاولتنا تولى ضبط الزمن ثم طلب منا ان نبدأ الافطار. لم يكن هناك شىء يختلف عن طريقة السودانيين في تناول الطعام والدردشة خلاله. ولا تبدو الطبيعة المختلفة في المدينة والدولة قد اثـّرت بشكل من الاشكال اللهم سوى مكان الافطار (نادي) والمسافات البعيدة التي يتعين اجتيازها للوصول اليه. وبعد الطعام بدأت الصلاة ثم شرب الشاي والقهوة. وبدا كل شىء قد انتهى بسرعة اكثر من المعتاد. وفيما بدأ الناس يتأهبون لمغادرة المكان صاح احدهم طالبا من الجميع الانتظار قليلا وفهمت اننا بصدد اجتماع سريع لامر هام. كان بعض الشباب في تلك الاثناء يعملون بهمة على نظافة الطاولات والارضية وتجميع الكراسي واعادة رصها هي والطاولات في شكل مختلف. وبعد التئام الشمل اعلن المنادي ان احتفال الرابطة بالعيد سيكون اول سبت بعد انتهاء شهر رمضان، وبعد دقائق من هذا التجمع السريع خرجت الاغلبية من المكان عائدين الى بيوتنا، وكل عام وانتم بخير من البلاد الواطئة والباردة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق