الأربعاء، 5 نوفمبر 2008

نموذج الدمج الاجتماعي المطلوب في اليونان

في زيارة قمت بها الشهر الماضي (نوفمبر 2005) الى هولندا، اقمت لمدة ثلاثة ايام في بيت احد المهاجرين في مدينة لاهاي. البيت كان قريبا جدا من مركز المدينة. وكنت اذهب مع صديقي الى الدكاكين لشراء احتياجاته اليومية ومن بينها محلات للتلفونات والموبايل (كول شوب). ولكن في اليوم الثاني انتهبت الى ان كل المحلات والاشخاص الذين اراهم في العمارة او قربها اجانب. فسألته ان كان يقيم هنا هولنديون. اجاب ان هذا غيتو ولا يوجد هولنديون. وشرح لي ان الحي باكمله اجانب بل لاحظت حتى مركز الشرطة الموجود كانت ملامح الموجودين فيه من نفس ملامح سكان المنطقة.

هذه اول مرة في حياتي ارى ما يسمى بالغيتو. واكثر ما لفت نظري البنات الصغار وهن يسرن في الشارع الى المدارس كن يرتدين المنديل. فسألته ان كان هؤلاء التلاميذ يذهبون الى مدارس حكومية. فقال لي ان المدارس حكومية ولكننا نسميها اسلامية. واندهشت رغم اني مسلم ليس لانهن يرتدين المنديل ولكن لان الصورة العامة اعطتني احساسا باني موجود في الشرق الاوسط وليس في اوربا في قلب مدينة هي في الحقيقة احدى عواصمها الكبرى، وشعرت بالاستغراب لان هؤلاء الاطفال ربما كانوا الجيل الثالث او الرابع. وعلمت ان الاغلبية هناك من المغرب وتركيا والبقية من دول عربية اخرى وآسيا.
من الواضح تماما انه لا يوجد اي اتصال بين الطرفين اما لانهما غير راغبين او لانهما غير قادرين على الاتصال بين بعضهما البعض ويعطي الوضع انطباعا بان الوضع ثابت وطبيعي ولا يمكن ان يتغير.
بالنسبة لي كان واضح جدا ان هذا النموذج اذا كان هو المقصود بالدمج الاجتماعي فليس هناك اي دمج. كل ما في الامر ان هناك اقامة قانونية او جواز سفر وبعض الاعمال الهامشية للاغلبية وعدد كبير من العاطلين، يعتمد على منحة العطالة. وبعد ذلك انقطاع كامل عن بقية المجتمع. بل فوجئت حين سألت صديقي ان كان لديهم الحق في التصويت في الانتخابات البلدية فقال نعم ولكن الاغلبية لا تمارس هذا الحق ولا تعرف الكثير عنه وهي في نهاية الامر غير مهتمة به.
خلال الزيارة ايضا لاحظت في اليوم الثاني ان الصحف كلها تحمل صورة كبيرة لرجل في حوالي السبعين من العمر وامرأة سوداء شابة وسألت ما الموضوع فقالوا لي ان الاثنين هم اعضاء البرلمان وان نقاشا حادا دار بينهما بدأ عندما اتهمت البرلمانية الشابة، زميلها العجوز انه يتصرف مثل زعماء القبائل في شمال افريقيا ورد عليها بالقول انها لا تمثل المسلمين.عرفت ان هذه المرأة هي صومالية ولعلها من الجيل الاول وانها تثير جدلا قويا بين المسلمين ويتهمها الجميع خاصة الصوماليين انها تخلت عن دينها وهويتها وانها عار وحاليا تعيش مختبئة في عنوان غير معروف ومحروسة بالشرطة ليل نهار. واصبح هناك موضة في ان تسعى الجرائد الشعبية لاكتشاف مكان سكنها ثم تعلن الشرطة انه تم تغيير سكنها والان هي مهددة بالقتل خاصة من الصوماليين.

المثال الاول (الغيتو او عدم التواصل) والمثال الثاني (الانسلاخ) اي الصومالية التي قبلت بالذوبان في المجتمع، يكشفان بوضوح ان هناك مشكلة حقيقية، فالاول خلق مشكلة عزلة مع المجتمع المحلي، والثاني خلق مشكلة عزلة مع الطرف الذي تنتمي اليه والمفترض انك تستمد منه القوة لدعم التواصل. ولذلك وبعد كل هذه السنين ما يزال السؤال هو: ما هو مفهوم اوربا في النهاية لموضوع الثقافات المختلفة خاصة ثقافات القارات غير الاوربية؟ وهل الحل هو مجرد اجراء تشريعي من الدولة ام هو اجراء يتشكل عبر المجتمع نفسه؟ في ظل وجود الامثلة التي ذكرتها واستمرار النقاش حول الموضوع فهذا يعني ان اوربا ما زالت لم تصل الى نتيجة وان الموضوع مفتوح و انه سيكون، في تقديري مفتوحا الى سنوات طويلة.

نحن في اليونان حاليا نركز الان بشدة على دور الدولة ولا نتكلم الا قليلا عن دور المجتمع وذلك لاننا ما زلنا موجودين في مرحلة التقنين اي في مرحلة تسليك العلاقة مع الدولة والتي ما تزال تواجه مشاكلا كبيرة كما هو معروف.

وخلال هذا الوقت يسألنا بعض الصحفيين ان كان في اليونان غيتو وانا اعتدت ان ارد بان تجربتنا في اليونان مختلفة عن الدول الاوربية ولهذا فان السؤال الصحيح هو ما اذا كان هناك عزل او تهميش ام لا. والتجربة دلت على ان الاجنبي في اليونان معزول بسبب الدولة حتى الان لانه 1/ غير مستقر وخائف 2/ ولانه ليس له مدخل للمعلومات 3/ والقانون يطبق الواجبات ويتجاهل الحقوق 4/ وليس له حماية من اصحاب العمل وسلسلة طويلة من المشاكل تجعله ضعيف وغير قادر على الدفاع عن نفسه مما يجعله مهمشا معزولا من ناحية ومكشوف لكل انواع الاستغلال من ناحية ثانية بما في ذلك امام الاطفال الصغار في الشارع.

خلال هذا الوقت احاول ان اتصور صورة الجيل الثاني بعد سنوات قليلة وفي ذهني صورة الظروف التي ينشأ فيها حاليا وهي:

يولد الطفل الاجنبي حاليا وهو محروم من شهادة الميلاد بموجب القانون، وبعد ان يكمل 14 عاما عليه ان يدفع 150 يورو للحصول على اقامة مؤقتة تجدد كل عامين، وعندما يصير 21 ويترك الدراسة امامه 6 شهور لكي يجد صاحب عمل والا عليه ان يغادر اليونان. وخلال هذا الوقت فانه لا يستطيع ان يؤدي واجباته الدينية ان كان مؤمنا الا في المخازن، واذا استطاع ان يتعلم فانه يواجه (المهن المغلقة مثل الهندسة والصيدلة) واذا كان ملونا فانه محروم من بعض المهن بسبب لونه وقائمة طويلة من المعوقات الاخرى. اذن السؤال كيف يمكن ان يدمج مثل هذا الطفل في المجتمع في ظل هذه الظروف؟

هذا يعني بالنسبة لي ان مفهوم الغيتو ليس هو الجغرافيا وحدها، وان كانت عاملا يساعد كثيرا على العزلة ولكنه ظروف معينة، وتدريجيا تتحول وتصبح اسلوب حياة وهي الحياة التي يعيشها الاجانب حاليا في اليونان كل واحد في عالمه الخاص. اذن مسألة كفالة الحقوق من جهة الدولة هي مسألة اساسية واعتقد ان حجم الحقوق التي تقبل بها الدولة للاجانب ستحدد الى حد كبير طبيعة موديل الدمج الاجتماعي الذي سيطبق. ولذلك فان السؤال هو: ما هو حجم الحقوق التي ستسمح بها الحكومات للاجانب؟ وما هي المعايير التي سوف تحدد بموجبها الحجم المقرر؟

وفيما يتعلق بهذا الموضوع اشير الى انه قد اتيحت لنا الفرصة الشهر الماضي ان نستمع في بروكسل، الى شرح مطول من المفوض الايطالي فرانكو فراتيني بحضور مندوبي 15 جالية من اليونان حول كيف ينظر الاتحاد الاوربي الى قضية الهجرة والمهاجرين وماذا ينوي ان يفعل.

ومن الخلاصات التي خرجت بها من ذلك اللقاء هو اني اعتقد ان احد اهم المعوقات في قضية الهجرة كما هي تتشكل الان في اليونان وفي اوربا، هي ان التشريعات التي تصدر لا تصدر حسب مبادىء الحقوق المعروفة والمعترف بها بالدرجة الاولى ولكن على اساس تسويات بين اطراف منقسمة بشدة داخل الاحزاب السياسية الرئيسية وهذا هو الذي حصل مع القانون 2910 وتكرر مرة اخرى في القانون الجديد 3386. واعتقد ان هذا الاسلوب سيطبق ايضا بشكل اكبر على مستوى الاتحاد الاوربي. ولكن اثره سيكون سيئا جدا على المستوى الاوربي نتيجة الفروقات الكبيرة بين الدول الاعضاء في كافة المستويات حول هذا الموضوع. والحصيلة ستكون ايضا قليل جدا من الحقوق. وما يساعد على الاستمرار في هذا المنهج هو ان الجميع ما يزال ينظر الى القضية من زاوية انها مشكلة وليس على اساس ان هناك مجموعة من الناس لديها مشاكل وتحتاج لمساعدة لكي تندمج، ولهذا يتحول الامر الى (ادارة ازمة) وليس (مواجهة ظاهرة بصورة متكاملة بهدف ايجاد حلول). اذا استمر هذا التفكير فان هذا يعني ان على الاجانب ان ينتظروا المزيد من التهميش.

مع ذلك فاني اشعر بالتفاؤل في اليونان لان اليونان لحسن الحظ في البداية ولم تطبق بعد اي موديل للدمج الاجتماعي لان الدولة ما زالت في مرحلة التقنين كما قلت سابقا. البعض يعتقد ان هذه سلبية لكني اعتقد انها فرصة عظيمة لليونان لان لديها الفرصة الان كي تتجنب معظم ان لم يكن كل المشاكل التي وقعت في الموديلات الموجودة في الدول الاخرى وتقدم موديلا ناجحا جدا.
اقول ذلك وفي ذهني بعض الخصوصيات الفريدة التي تجعل اليونان حسب رأيي تختلف اختلافا كبيرا من بقية الدول الاوربية.

· اولا في تركيبة الاجانب نلاحظ ان اكثر من 80% من الاجانب هم من اوربا اي من نفس القارة وليس من قارات اخرى كما في الدول الاخرى واكثرهم من نفس المنطقة (البلقان) وهذا مهم لان العناصر الثقافية متشابهة جدا.
· ثانيا اليونان بحسب انها مجتمع زراعي هي بالضرورة اكثر مرونة وحساسية من المجتمعات الصناعية خاصة في القضايا الاجتماعية واكثر قدرة على التواصل.

· ثالثا وضع اليونان الجغرافي وتاريخها وثقافتها ارتبطت وما تزال بثقافات الشرق اكثر من دول الاتحاد الاخرى وما تزال الجاليات اليونانية تعيش في المنطقة منذ مئات السنين (شرق المتوسط، شمال افريقا الخ). بل في كل ازماتها فانها عادة ما تتجه شرقا او جنوبا وتجد السند من هناك وهذا يجعلها اكثر قدرة على التعايش مع الثقافات الاخرى.

· رابعا اعتبر ان المجتمع متقدم كثيرا على الدولة رغم المشاكل التي تظهر هنا وهناك وفي رأيي انه تحمل جزء كبير من مسؤولية الدمج الاجتماعي بوسائله الخاصة وبعيدا من الدولة فالان هناك مستوى من التداخل والتواصل افضل بكثير من الدول الاخرى. فالاجانب يسكنون مع اليونانيين في نفس العمارة والاطفال موزعون على المدارس مع الاطفال اليونانيين وهناك زواج مختلط واسع الخ وهذا لا يوجد في دول الاتحاد الاخرى.

· هذه العناصر وغيرها اذا تم حسابها واستخدامها يمكن ان تؤدي الى نتائج ايجابية. ببساطة اريد ان اقول ان المجتمع اليوناني عموما اكثر قبولا للمشاركة في اي اجراء للدمج اذا اتيحت له الفرصة ولذلك فان الطريقة التي سيتم بها تقديم الموديل ستلعب دورا حاسما في نجاحه او فشله. كذلك اتوقع ان يكون للجيل الثاني الذي يصل تعداده الان الى نحو 200 الفا دور كبير وهذا سوف يحدث بسرعة لانهم يكبرون بسرعة.

· لكن اعتقد ان الامل قليل جدا في رؤية الامر بالطريقة التي ذكرتها لان المناخ الموجود يميل الى افتراض ان دول الاتحاد الاخرى هي (المرجعية) وانها (المَثلْ) الذي يجب ان يحتذى. ولكني اعتقد ان اليونان امامها فرصة تحقيق ما عجز عنه الاخرون اذا استخدمت ما لديها من امكانيات، ولكن هذا يتطلب شرطا رئيسيا، وهو ان تتوفر الثقة بالنفس اولا، لدى السياسيين وجميع الاطراف ذات العلاقة بالقضية، بأن البلاد لديها من الامكانيات والخصوصيات الايجابية ما يجعلها فعلا قادرة على بناء نموذج فعال وناجح يحوّل اليونان الى نموذج للدول الاخرى بدلا من دولة تحاكي الاخرين. وشكرا

معاوية محمدين أحمد


معهد الدراسات الاستراتيجية والتنموية – اندرياس باباندريو
عنوان الندوة: التعدد الثقافي اليوم: هل يوجد طريق لتعايش مبدع؟
فندق تيتانيا – يوم 13 ديسمبر 2005
متحدثون: ديمتري خالكيوتيس مدير المعهد، ميخائيل باباياناكو عضو المكتب السياسي لحزب التحالف وعضو سابق بالبرلمان الاوربي، معاوية محمدين احمد رئيس الفورم اليوناني للمهاجرين ونائب رئيس الشبكة الاوربية لمكافحة العنصرية، ميلتوس بافلوس مدير برنامج (الحوار الاوربي حول الهجرة). مدير الندوة: الدكتورة مارلينا كوبا استاذة بجامعة بانديوس ونائب مدير المعهد.

ليست هناك تعليقات: