احيانا لا تدري هل تبكي ام تخرج وتملأ الشارع صراخا ام تبقى في مكانك لتنفجر في هدوء من شدة الاحساس بالظلم والاضطهاد والمعاناة والقسوة التي لا مبرر لها. ومما يزيد الشعور بهذه الاحاسيس السيئة هي انها تصدر من بعض اشخاص ينتمون الى شعب كان اجدادنا واباؤنا قد عاملوهم افضل معاملة عندما مرت بهم ظروف صعبة اضطرتهم للهجرة والاقامة في بلادنا عشرات السنين، واحسنوا وفادتهم، وعاملوهم معاملة ابناء البلد، وقدموا لهم كل عون ممكن، وشملوهم بالعناية والاحترام، وما زال ممن تبقى منهم الى يومنا هذا يعيش حياة هادئة محترمة لم يحدث قط ان حدث فيها ما يمس كرامة احدهم او يخدش شيئا في انسانيته رغم تقلب الاحوال في البلاد وشيوع الاضطراب وازدياد الحروب.
اقول هذا وقد بلغني يوم امس ان مجموعة من اللاجئين السودانيين كانوا قد ذهبوا الى منطقة زراعية في جزيرة كريت (قرية كاستيلي قرب مدينة خانيا) للعمل فيها كعمال موسميين لجني الزيتون قد تعرضوا لهجوم عنصري جبان وهم نيام دون اي سبب سوى ان بعض اهل المنطقة لا يحبون الاجانب ولا يريدون ان يرونهم في منطقهم حتى ولو كانوا عمالا باجر لا يصل حتى الى نصف الحد الادني من الاجور. وهو لو تعلمون عمل شاق ويمتد ساعات طوال ومن بعد ذلك فان اصحاب العمل غير مسؤولين عن اي شىء بعد تسديد هذه الدرهيمات حتى عن العلاج اذا اصيب احدهم بشىء يستدعي علاجه.
كان هؤلاء المساكين نياما في مكان اصلا لا يلبي حتى الحد الادنى من السكن الانساني اللائق، حتى هجم عليهم نحوا من 25 يونانيا من سكان المنطقة وبدأوا بضربهم. وقد هب السودانيون للدفاع عن انفسهم وتمكنوا رغم المباغتة من صد المعتدين. ولكن لم تمر ساعتين حتى عادت نفس المجموعة معززة بمجموعة اخرى، ليواصلوا الهجوم من جديد. وللمرة الثانية تمكن السودانيون وعددهم 16 شابا ليس فقط من السيطرة عليهم بل وقبضوا على خمسة منهم وقادوهم الى مخفر الشرطة بالمنطقة.
فحصت الشرطة هويات المهاجمين، ولكنها قررت انه لا يوجد مبرر لاعتقال المهاجمين فاطلقت سراحهم فورا وهذه في حد ذاتها كانت اشارة واضحة للتواطؤ وغض النظر عن موضوع بهذه الخطورة. ومما يؤكد ذلك انها – اي الشرطة – عادت في صباح اليوم التالي الى مكان اقامة الشباب السودانيين وطالبتهم بالخروج ليس فقط من القرية التي يعملون فيها وانما من جزيرة كريت كلها، اي طردتهم دون ان توضح لماذا، وما هو الجرم الذي ارتكبوه، علما بانهم سعوا لهم مستنجدين طالبين حماية القانون. واذا اكتفت الشرطة بابعادهم عن القرية التي كانوا فيها فقط فربما يحسن الانسان الظن في تصرفها اذ قد يكون ذلك تفاديا لصدامات قد تحدث في المستقبل. ولكن ان تطلب منهم الخروج من الجزيرة كلها فهذا سلوك ينطوي على عنصرية مكشوفة، وتواطؤ واضح مع المعتدين. مهما يكن فقد استجاب الضحايا الى طلب الشرطة فعلا وعادوا عن طريق البحر الى العاصمة اثينا لا يملكون سوى سرد تفاصيل الواقعة.
والواقع ان هؤلاء الشباب وكل الذين معهم وهم بضع مئات يعيشون في عزلة شديدة عن المجتمع. فعدا عن عدم معرفتهم باللغة اليونانية مما يعني عجزهم الكامل عن التعبير عن قضاياهم ومشاكلهم ومعاناتهم التي يقاسونها يوميا، فانهم وبسبب هذه المشكلة يجدون انفسهم غير قادرين على التواصل مع الهيئات والمنظمات غير الحكومية التي يمكن ان توصل قضاياهم ومشاكلهم الى الاعلام والرأي العام بشكل اوسع.
ان مشكلة هؤلاء الضحايا هي الدولة نفسها ممثلة في الامانة العامة لللامن العام (وزارة الامن العام سابقا) وهي الجهة المسؤولة عنهم بموجب القانون، كونها تتنصل - رغم انف القانون – من المسؤولية، المفروضة عليها بموجب الاتفاقية الدولية للاجئين لعام 1951 وبنود الامر الرئاسي الخاص بتطبيقها في اليونان. وتمتنع عن ايواء واطعام اللاجئين وتمنعهم في نفس الوقت من الحصول على الاوراق القانونية التي تسمح لهم بالعمل القانوني، وتخلق الظروف بغرض اجبارهم على الخروج بارادتهم من البلاد. ولكنها لا تكتفي بذلك بل تتجاوز ذلك الى الطرد السري. فقد ورد في تقارير عديدة وشهادات كثيرة ان الشرطة كثيرا ما تقوم بتجميع اللاجئين من مناطق مختلفة من اليونان وتنقلهم سرا في الليل الى الحدود مع تركيا وتأمرهم بدخول الاراضي التركية دون ان يبين لهم اثر في الدفاتر الرسمية. وكان تقرير لمنظمة "برو آسيل" الالمانية قد اثار العام الماضي جدلا واسعا حول انتهاكات رجال حرس الموانىء البحرية ضد اللاجئين مما اجبر وزير البحرية في حينه على التعهد باجراء تحقيق في الموضوع. وكان من نتائج هذه التقارير ان امتنعت الدنمارك مثلا عن تنفيذ اتفاقية دبلن الثانية التي تقضي باعادة اللاجئين الى بلد الدخول الاول ورفضت اعادة اللاجئين القادمين اليها من اليونان حتى انجلاء الحقيقة بشأن سوء المعاملة التي يلاقيها الاجانب. وقد حذت هولندا نفس الحذو ولكن من دون اعلان.
اوضاع الحصار هذه تركت هؤلاء اللاجئين بين نارين اما الوقوع في شباك شبكات تجار المخدرات وقد وقع فيها البعض فعلا، او التعرض الى اعتداءات العنصريين ان سلكوا طريق الرزق الحلال رقم قساوته وقلة عائده، مثل حالة الشباب الـ 16 الذين هاجمهم العنصريون اليونانيون في جزيرة كريت.
ان الدولة تدرك جيدا كل هذه الامور. واولها ان الشرطة داخلة في سوء معاملة واسعة النطاق ضد اللاجئين. وانها تغض النظر عن انتهاكات واضحة وخطرة مثل حادثة كريت حيث جيء لها بالمعتدين فاطلقت سراحهم وطردت الضحايا ليس من المنطقة الصغيرة التي كانوا فيها فحسب بل من الجزيرة كلها وهي منطقة شاسعة. ولذلك فان السؤال هو لماذا تتواطأ الشرطة؟ ولماذا تتغاضى رئاسة وزارتهم عن هذه الاحداث الجدية؟
في الوقت الحالي فان اهم ما يتوجب ان يفعله الضحايا هو ان يحرصوا على ابلاغ اي حادثة اعتداء او انتهاك او سوء معاملة فورا الى الناشطين في مجال حقوق المهاجرين او الى بعض المنظمات الاهلية العاملة في المجال. ويجب الا يقللوا من شأن هؤلاء الناشطين المتطوعين ابدا فهم الجسر الى الاعلام والطريق الى كشف الحقائق. والحقائق عندما تنكشف سوف تجبر المسؤولين على تصحيح ممارساتهم وربما سياساتهم.
شكرا كثير للسيدة افروديت التي كشفت عن الحادث في مدونتها الشخصية وطالبت كل من يملك معلومة اضافية عنها ان يبلغ عنها عبر مدونتها.
الصورة مأخوذة من صحيفة اليفثروتيبيا وردت مع تقرير للصحيفة حول اللاجئين السودانيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق