بالامس الثلاثاء كانت درجة الحرارة 4 تحت الصفر واصبحنا اليوم وانخفضت درجتين لتصير 6 درجات تحت الصفر. كانت درجة الرطوبة امس 86 في المائة واليوم مائة بالمائة حسب النشرة الجوية. اوراق الاشجار وحبال نشر الملابس (وهي في الحقيقة اسلاك)، واطراف الارصفة، مغطاة بطبقة رفيعة بيضاء من الثلج، فيما تحولت مياه البحيرة الصناعية الموجودة في منتصف ضاحية خروننغن الى طبقة صلبة من الجليد يتزلج عليها الاطفال بالواح خشبية مثبت عليها عجلات تنزلق بسرعة كبيرة فوق السطح المتجمد. وعندما وصلت قبل تسعة ايام الى هذه المدينة الهادئة في شمال هولندا، كانت بعض طيور الوز تسبح طوال اليوم في مياه البحيرة. والان وقد تجمدت المياه اختفت، ولا اعرف اين ذهبت. وقد اعلنت دائرة المناخ بالمدينة ان سرعة الرياح تكون صفرا وحذرت من ان كثافة الضباب ستكون عالية جدا وستنخفض الرؤية الى امتار قليلة وشبه معدومة في الشوارع السريعة.
في هذا الطقس يواصل سكان خروننغن بشمال هولندا احتفالاتهم بحلول العام الجديد. ولقد ادهشني ان ابرز التقاليد في الاحتفالات هي اعداد الزلابية في جميع البيوت بينما تعتبرها المحلات التجارية موسم مهم للربح حيث تباع القطعة الواحدة بما يصل الى يورو ونصف. وخلال اعداد الزلابية يبقى الكبار والصغار في الشوارع امام البيوت وهم يطلقون الالعاب النارية طيلة اليوم بدون كلل او ملل او شكوى من البرد القارس. العاب نارية من كل نوع. بعضها يطير في الفضاء وكأنه صاروخ حربي، وبعضها يطير ويفرقع في شكل دائرة بالوان مختلفة، وآخر يلتف في الارض في شكل دائرة متعددة الالوان وبعضها لا تخرج منه اية شعلة ولكنه يحدث فرقعة تجعلك تقفز من مكانك. ولشدة جاذبيتها لدى الاطفال فانك قد تخسر كل راتبك امام اصرارهم على الاستمرار في شرائها، علما بانها ليست رخيصة ابدا. فابني الاصغر دفع حتى الان 18 يورو ليشارك رفاقه في الحي في هذه التسلية ولعله اصغر المبالغ. ورغم ان الهولنديين مشهورين بالبخل الا انهم شديدو الكرم في شراء الالعاب النارية والزلابية. ومن المؤكد انهم يصرفون عشرات الملايين من اليوروهات في هذا الموضوع وحده. وعرضت احدى القنوات التلفزيونية امس حسب ابني الاكبر ان رجلا دفع 600 يورو دون ان يعتبر هذا المبلغ الكبير مبلغا شاذا. ويذكر ان هذا الرقم يمثل الحد للاجور في اليونان وبالطبع راتب عدة شهور في السودان لـ "الناس المحترمين". لهذا فان اجمل هدية يمكنك ان تقدمها لهولندي في مثل هذه الايام هي العاب نارية او زلابية.
نحن ايضا قمنا باعداد زلابية. ولم لا؟ فهي تضمن لكم مشاركة حميمة مع الجيران وتذكرك في نفس الوقت بوطنك الذي ترتكته سنينا. وهكذا اتاحت لي الفرصة كي ازعم ان هناك شيئا مشتركا بين ثقافتنا وثقافتهم. ولكني تعجبت ايضا كيف تأصل هذا التقليد وسط شعب غني مرفه بينما الزلابية هي طعام الفقراء. مهما يكن من امر فقد اضفنا الى البرنامج الهولندي التقليدي متابعة العدوان الاسرائيلي على غزة من الفضائيات العربية. ففيما تفعل العائلات العربية ما بوسعها لارضاء اطفالها تماشيا من الجو العام فانها بقيت مسمرة في الصالونات امام الفضائيات تتابع التطورات في ارض فلسطين دقيقة بدقيقة.
وبسبب طريقة البنيان فان البناءين اختاروا ان يضعوا زجاجا بحجم الحائط في الطرف المقابل للشارع بدلا من الطوب، في كل غرف الجلوس بحيث تصبح الغرفة مكشوف للعابرين في الشارع، او ان الاخير مكشوف للجالس من غرفة الصالون، اي كأنك جالس في الشارع او ان الشارع انتقل داخل المنزل. وعندما رأيتها في المرة الاولى حسبتها فترينات عرض لمحلات تجارية. ومع فجيعة فلسطين هذه الايام تحول هذا الزجاج الى بلورة سحرية تعكس الفارق بين حال وحال. فالناس جلوس في هذه الصالونات يتابعون مآسي العدوان عبر الفضائيات وفي نفس الوقت وعبر الزجاج يتابعون بمشاعر مختلطة احتفاء الهولنديين ومن احتضونهم من ابنائنا فرحتهم بالعيد، واستمتاعهم بالامن والسلام والرفاهية. ولا تملك وانت تتابع بعيون شاركة جلبة الاطفال في الشارع امامك، سوى ان تسأل بصمت وشعور عميق بالعجز متى سيتمتع اطفال فلسطين، واطفال العرب جميعا بالامن والسلام والرفاهية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق