من يتجول هذه الساعة في وسط اثينا يخيل اليه انه في ساحة حرب حقيقية. النيران مشتعلة في اكثر من مكان. والابنية محطمة، والشوارع المحيطة خالية. وبعض الشباب يهرولون في كل اتجاه، ورجال الشرطة بلبسهم الكاكي الثقيل وخوذاتهم وبنادق الغاز المسيل للدموع واشياء اخرى تزن كيلوات كثيرة وهم في اعقابهم. سيارات محروقة، ومحلات تجارية تفوح منها رائحة الدخان وواجهات بنوك مدمرة. هذه هي اثينا ومنذ ثلاثة ايام في حالة ثورة عارمة في كل مكان. والحقيقة ان اثينا مجرد محطة من محطات الثائرين. فالغضب بنفس العنف مشتعل في اغلب المدن الكبرى من اقصى البلاد الى اقصاها.
بدأت الاحداث ليل يوم السبت الماضي عندما اعلنت وسائل الاعلام المختلفة ان شرطيا اردى صبيا عمره 16 بالرصاص في احد ازقة حي اكسارشيا الموجود بوسط العاصمة والقريب من كلية الهندسة. ولم يمر على الخبر الا ساعة واحدة فقط حتى خرج مئات الشبان من مختلف انحاء اثينا الى نفس الحي واداروا فور وصولهم معركة عنيفة مع كل شىء امامهم. الشرطة، المحلات التجارية، البنوك، السيارات المخزنة على الشوارع، براميل الزبالة. وتوالت من بعد ذلك مسيرات الغضب، في كل مدن البلاد الكبرى من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب.
سارع رؤساء الاحزاب السياسية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين الى ادانة الحادث. واعلن اساتذة الجامعات عن اضراب لمدة ثلاثة ايام احتجاجا على تصرف الشرطة. وتزامن ذلك مع مسيرة معلنة مسبقا من قبل النقابة العامة لعمال اليونان يوم غد الاربعاء 9 ديسمبر الامر الذي سيعطيها زخما وطبيعة اخرى وجعل العمال ينضمون بالصدفة الى الاحتجاجات القوية. واقدم التلاميذ والطلاب في مئات المدارس والجامعات الى الاضراب عن الدروس وتنظيم الاحتجاجات بطرق مختلفة. وسارع وزير التعليم الى اعلان يوم غد عطلة للمدارس تضامنا مع اسرة القتيل كما قال. لقد دخل الكل في القضية ولكن يصعب تحديد هدف كل طرف.
الطلاب والتلاميذ والشباب عموما بالذات اعتبروا القضية قضيتهم، ولابد من الثأر من الشرطة، الدولة، الممتلكات العامة اي شىء. ويقول المعلقون انها اعنف ثورة تحصل منذ انهيار الحكم العسكري عام 1973. ولقد لجمت الحادثة وردود الفعل التي اثارتها لسان الحكومة المحافظة التي وجدت نفسها فجأة في حالة لا تحسد عليها. زنقة ليس بعدها زنقة. الشرطة غير قادرة على ممارسة اي "عنف زائد" خشية تصعيد الوضع وفي الوقت نفسه غير قادرة على رؤية الفلتان يتزايد بشكل يومي. فلقد صدرت لها الاوامر بان تبقى في موقف الدفاع فقط. وقد اعطى هذا الوضع انطباعا بان الامور قد خرجت من سيطرة الحكومة واستسلمت البلاد الى فوضى لا يعرف احد اين ومتى تنتهي.
لقد تحول الصبي القتيل اليكساندرو اندريا غريغوربولو ذو الستة عاما الى رمز للغضب ضد فلتان اجهزة الامن، وتحول مهمتها من حماية المواطن الى قتل المواطن. ولم يكن الغضب الا انفجار لتراكم طويل من الشكوى والجأر من ضعف الشرطة امام المجرمين واستئسادها امام المواطنين العزل. والواقع ان الشرطة اليونانية متهمة بالكثير من الانتهاكات وعدم الكفاءة والفساد ثم جاءت الطامة عندما صوب احد رجالها مسدسه في صدر الطفل الكساندرو.
توضح حالة الكساندرو او اليكسي كما ينادونه باسم التصغير، ورد الفعل العنيف الذي واجه به المجتمع اجهزة الامن ان الشعب لا يثق في السلطة عموما والشرطة خصوصا. فعدا عن المظاهرات والمسيرات المنظمة والعفوية واحداث العنف فان المطلب ظل واحدا: القصاص العادل لمقتل الكساندرو. ولم تهدىء تعهدات اعضاء الحكومة وفي مقدمهم رئيس الوزراء كوستاس كرامنليس بانزال العقوبة المناسبة، من شكوك الناس فقد استمروا الى الان يطالبون بالقصاص. وكان لافتا اصرار عائلة الصبي القتيل على ان يصحب الاطباء الشرعيين في غرفة التشريح خبير خارجي على حسابهم حتى يتأكدوا من نتائج التشريح. وفي خلال يومين فقط انضم اكثر من مائة الف مواطن الى منبر الكتروني اقيم في موقع فيس بوك الشهير باسم الصبي القتيل للمطالبة بالقصاص الواضح والناجز. ان الكل فيما يبدو يخشى ان تلتف السلطة على الحادث الى ان يطويها النسيان وكأن شيئا لم يحدث.
لقد فتحت حادثة مقتل اليكسي قضية وضع الشرطة اليونانية على مصراعيها. ولكن حتى الان لا يبدو على المستوى العملي ان احدا قادرا على اتخاذ اي قرار. فاكثر ما حدث حتى الان تكرار لخطوات رآها الناس قبل 25 عاما خلال حادثة مشابهة قتل فيها قاصر في عمر اليكسي. اذ قدم وزير الداخلية انذاك استقالتهما الى رئيس الوزراء ولكن الاخير رفضها، وهو الامر الذي تكرر الان. وذكرت وسائل الاعلام بان اجراءات ذلك الوقت لم تفضي في نهاية الامر سوى الى تبرئة الشرطى القاتل عام 91. هل اعاد اليكسي الى الناس الذاكرة؟ ربما لكن المؤكد ان الشعب وخاصة الشباب عازمون على انتزاع القصاص. والقصاص فقط. ولكن هل هذه هي كل القضية؟ ان الواضح من ممارسات الشرطة ومجمل اداءها يحتاج الى مراجعة شاملة.
هكذا قضينا وقفة عيد الاضحى واليوم الاول منه وكل عام وانتم بخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق