ماريوس خاكاس/ ترجمها عن اليونانية: زكري العزابي
"ولد ماريوس خاكاس عام 1931 بإحدى قرى محافظة (فثيوتيذا) في وسط اليونان، ثم جاء مع والده المهاجر إلى أثينا صغيرا عام 1935.
سجن عام 1954 لأسباب سياسية.
أول مجموعة قصصية له صدرت عام 1965 بعنوان (صيف جميل). وله مجموعات قصصية ظهرت بعد ذلك تباعا، مثل (العدوّ المسلح) 1966، (المغسل وقصص أخرى) 1970. أصيب بالسرطان ولم يتسن له أن يعيش طويلا. وكتب خلال فترة مرضه ثلاث مسرحيات من فصل واحد، وهي (الذنب)، (مطاردة)، و(المفاتيح). توفي عام 1972.
تعكس أعمال ماريوس خاكاس تجاربه الشحصية، سواء السياسية منها، أو تجربة صراعه مع المرض في سنواته الأخيرة".
* * *
ليست القضية هي أنني أخاف الموت، ولكنني قلق فقط من الآّ أتمكن من إنجاز مالدي من إلتزامات، ولدي كوم كامل من الأشياء التي يجب القيام بها. إضافة إلى أخرى كنت قد أنجزتها بطريقة خاطئة ويجب إصلاحها.
فلو كنت مكان بائع السجائر، والذي قبل أن يسلم الروح بقليل قال لإبنه:
ـ أنا مدين للوكالة بـ 126 دراخمة..
ـ حسنا ـ قال إبنه ـ إستعد صحتك أولا...
ـ ليس أولا.. الآن.. خذها الآن ولا تعود إلا ومعك وصل.. لا أريد أن أكون مدينا لأحد.. يحتمل أن أموت بعد قليل.
كان ذلك هو العمل الوحيد الذي لم ينجزه، وانتظر الوصل حتى يسلم الروح.
اما أنا.. فتعوزنتي واصلات كثيرة.. الآف الواصلات.. وجمع غفير من الأعمال غير المنجزة، والتي ما زالت في إنتظاري. وإذا حدث فجأة ـ لا قدر الله ـ فإنها ستبقى معلقة في المنتصف. الكتب التي اكتبها، النساء اللواتي أدور حولهن وأزمع أن اضاجعهن ذات يوم، الرحلات التي أخطط لها، والعملية الجراحية التي اؤجلها المرة تلو الأخرى، ويجب أن أجريها ذات يوم.
لو كنت مكان السيدة ماريا مثلا، لما كان لدي اي مانع.. إذ ما الذي يدعوك عندها للبقاء وسط الناس. فليست هناك نقطة ابعد مما يصل إليه المرء، ويطمع في الوصول إليه عندما يكون جاهزا تماما لمحطة مثل تلك. وذلك لأن السيدة ماريا، وفي اليوم السابق لوفاتها، كانت لديها الجرأة لأن تتشاجر مع أختها التي كانت تزورها في المستشفى:
ـ لماذا تأتين لزيارتي وتتركين زوجك دون أكل.. الأحياء أولى بالإهتمام. بعدها دخلت في غيبوبة.. وكانت كلما تصحو من غيبوبتها تتمتم:
ـ الأحياء.. الأحياء..!!
هذان كانا إنسانين كاملين، وكانا يعرفان ما يفعلانه حتى النهاية.. أما أنا.. فقد حولت الأمور إلى فوضى منذ البداية، فقدت اصدقائي كلهم، ومشجّعي كذلك، وفي مرات كثيرة حتى افكاري. ولهذا كله.. يجب أن أعطى الوقت والجرأة لكي استعيد هذه الأشياء من جديد، لأنه ليس باستطاعتي أن أغادر هكذا.. على هذا النحو.. ودون وصل واحد.
ليكن حظ بائع السجائر ذاك سعيدا، أعني أن يكون ثمة شيء يقول لك بأنك على مايرام. إن ما لا استطيع نسيانه هو بائع السجائر بالذات، لأنني كنت أعطيه كل يوم قطعة من فئة العشر دراخمات، لآخذ منه علبة سجائر (آسّوس). كان يقف باستمرار في نفس الزاوية، يقرّب العملة من نظارته المكبرة وفمه نصف مفتوح، كما لو كان يستعد للعض. ذات صباح.. لم أجده في مكانه.
ـ في المستشفى ـ قال لي صاحب المقهى ـ إنه القلب .. لن يعبر هذه الأزمة.
ووجدت نفسى أمسك بقطعة العملة بفم نصف مفتوح. ولأن أعصابي كانت متوترة لأنه لم يكن لدي سيجارة واحدة.. شرعت اعضها.. ثم اسرعت منزعجا إلى أقرب كشك.
ـ آسّوس.. قلت..!
ـ لا يوجد.. قال لي الولد في الكشك.
لسنوات طويلة الآن، يصبر على الموت، وأنا أعض قطعة العشر دراخمات هذه قبل أن أشترى السجائر.. وانتظرت أن اسمع من الولد "لقد انتهت السجائر بالنسبة إليك.. إنتهى كل شيء".
اسوأ ما في الأمر عندئذ هو أنني سأكون غير مستعد.. وأن قطعة العملة هذه.. هي مجرد معبر.. قطعة عملة رخيصة.. رمز فان.. لكي أعبر إلى الجانب الآخر.
ومع ذلك، فإن ثمة أناس يذهبون وهم جاهزون تماما.. السيدة "كولا" مثلا، والتي زارت الأماكن المقدسة لمجرد أن تشتري اكفانها من هناك فقط. السيد "يواكيم".. جاهز من جميع الوجوه، والسبب الوحيد في تأخره، هو أنه سمع بأن قدما بشرية قد وطأت على القمر، فتأخرت نهايته.
عادة ما أفكر في إيميليا.. اصغر مني قليلا.. خمس علميات جراحية.. خمسة وثلاثون كليوغراما.. جلد على عظم. ولكن عينيها كانتا دائما هما هما.. طافحتين بنفس الإشعاع. وكبيرتين مثلما كانت في البداية.. تحدقان من نافذة المستشفى في اليوم السابق لوفاتها:
ـ عندما نعود إلى البيت يا "ساكي".. سنشتري غصن شجرة ورد.. هذا هو ما ينقصنا.
ـ نعم.. أجاب زوجها.. وفتش في جيبه باصابع مبتلة بالعرق.. معاملتها المنتهية من قبل المستشفى.. حساب التابوت..تصريح إخراج الميت.. اوراق خاصة بالطائرة.
ـ ساكي.. ربما ثمة حاجة إلى أوراق خاصة خاصة بشجرة الورد في الطائرة.
وقبل أن ترسل إلى غرفة العمليات مرة أخرى بقليل قالت:
ـ ليس على قبري.. اريدها للبيت.
كانت تعرف نهايتها.. وأنها سوف لن ترى ضوء النهار مرة أخرى، وحديقة شجيرات الورد.. والنجوم في السماء. ومع ذلك.. وحتى اللحظات الأخيرة في حياتها، وهي في طريقها إلى غرفة العمليات للمرة الثامنة، كانت تغني.. فيما رددت الردهات الصدى:
ـ متى تنجلي السحب.. السحب..
هذا بالطبع بالنسبة للآخرين، أما أنا.. فلقد تقيحت من عفونة زمني، بحيث لم تعد لدي الجرأة للقيام بأية حركة حتى لمجرد طرد ذبابة. ودع عنك أن أغني معطيا الأمل للآخرين. حتى مجرد حرف (و) لم يعد بإمكاني التفوه به من أجل الآخرين. أذكر كيف كنا نتعاون في بعض الشئون العامة انا وإيميليا. كنت أشبه ورقة ـ ليس ورقة ذكرى متيبسة بين صفحات كتاب ما ـ إنما ورقة خضراء.. بل شديدة الخضرة على شجرة، رطوبة وابتسامة. أشعر بأنني الآن قد عبرت جميع خطوط يدي، أو كما لو أنني قد انتهيت من عد أيامي كلها، ثم أترك ليغطيني الغبار.. العودة إلى الوراء لم تعد ممكنة، وأنا أجمع الأبيات من هنا وهناك.. حتى انني أقبل بأنني قد عشت بالفعل.. عشت وأنا أتقدم نحو النهاية، ودون أن يكون لدي ثلاثة امتار من قماش القطن، وبضعة دراخمات أمنحها للممرضين، وبيت شعر جيد ألقيه عندما اصل إلى البوابة.
"ولد ماريوس خاكاس عام 1931 بإحدى قرى محافظة (فثيوتيذا) في وسط اليونان، ثم جاء مع والده المهاجر إلى أثينا صغيرا عام 1935.
سجن عام 1954 لأسباب سياسية.
أول مجموعة قصصية له صدرت عام 1965 بعنوان (صيف جميل). وله مجموعات قصصية ظهرت بعد ذلك تباعا، مثل (العدوّ المسلح) 1966، (المغسل وقصص أخرى) 1970. أصيب بالسرطان ولم يتسن له أن يعيش طويلا. وكتب خلال فترة مرضه ثلاث مسرحيات من فصل واحد، وهي (الذنب)، (مطاردة)، و(المفاتيح). توفي عام 1972.
تعكس أعمال ماريوس خاكاس تجاربه الشحصية، سواء السياسية منها، أو تجربة صراعه مع المرض في سنواته الأخيرة".
* * *
ليست القضية هي أنني أخاف الموت، ولكنني قلق فقط من الآّ أتمكن من إنجاز مالدي من إلتزامات، ولدي كوم كامل من الأشياء التي يجب القيام بها. إضافة إلى أخرى كنت قد أنجزتها بطريقة خاطئة ويجب إصلاحها.
فلو كنت مكان بائع السجائر، والذي قبل أن يسلم الروح بقليل قال لإبنه:
ـ أنا مدين للوكالة بـ 126 دراخمة..
ـ حسنا ـ قال إبنه ـ إستعد صحتك أولا...
ـ ليس أولا.. الآن.. خذها الآن ولا تعود إلا ومعك وصل.. لا أريد أن أكون مدينا لأحد.. يحتمل أن أموت بعد قليل.
كان ذلك هو العمل الوحيد الذي لم ينجزه، وانتظر الوصل حتى يسلم الروح.
اما أنا.. فتعوزنتي واصلات كثيرة.. الآف الواصلات.. وجمع غفير من الأعمال غير المنجزة، والتي ما زالت في إنتظاري. وإذا حدث فجأة ـ لا قدر الله ـ فإنها ستبقى معلقة في المنتصف. الكتب التي اكتبها، النساء اللواتي أدور حولهن وأزمع أن اضاجعهن ذات يوم، الرحلات التي أخطط لها، والعملية الجراحية التي اؤجلها المرة تلو الأخرى، ويجب أن أجريها ذات يوم.
لو كنت مكان السيدة ماريا مثلا، لما كان لدي اي مانع.. إذ ما الذي يدعوك عندها للبقاء وسط الناس. فليست هناك نقطة ابعد مما يصل إليه المرء، ويطمع في الوصول إليه عندما يكون جاهزا تماما لمحطة مثل تلك. وذلك لأن السيدة ماريا، وفي اليوم السابق لوفاتها، كانت لديها الجرأة لأن تتشاجر مع أختها التي كانت تزورها في المستشفى:
ـ لماذا تأتين لزيارتي وتتركين زوجك دون أكل.. الأحياء أولى بالإهتمام. بعدها دخلت في غيبوبة.. وكانت كلما تصحو من غيبوبتها تتمتم:
ـ الأحياء.. الأحياء..!!
هذان كانا إنسانين كاملين، وكانا يعرفان ما يفعلانه حتى النهاية.. أما أنا.. فقد حولت الأمور إلى فوضى منذ البداية، فقدت اصدقائي كلهم، ومشجّعي كذلك، وفي مرات كثيرة حتى افكاري. ولهذا كله.. يجب أن أعطى الوقت والجرأة لكي استعيد هذه الأشياء من جديد، لأنه ليس باستطاعتي أن أغادر هكذا.. على هذا النحو.. ودون وصل واحد.
ليكن حظ بائع السجائر ذاك سعيدا، أعني أن يكون ثمة شيء يقول لك بأنك على مايرام. إن ما لا استطيع نسيانه هو بائع السجائر بالذات، لأنني كنت أعطيه كل يوم قطعة من فئة العشر دراخمات، لآخذ منه علبة سجائر (آسّوس). كان يقف باستمرار في نفس الزاوية، يقرّب العملة من نظارته المكبرة وفمه نصف مفتوح، كما لو كان يستعد للعض. ذات صباح.. لم أجده في مكانه.
ـ في المستشفى ـ قال لي صاحب المقهى ـ إنه القلب .. لن يعبر هذه الأزمة.
ووجدت نفسى أمسك بقطعة العملة بفم نصف مفتوح. ولأن أعصابي كانت متوترة لأنه لم يكن لدي سيجارة واحدة.. شرعت اعضها.. ثم اسرعت منزعجا إلى أقرب كشك.
ـ آسّوس.. قلت..!
ـ لا يوجد.. قال لي الولد في الكشك.
لسنوات طويلة الآن، يصبر على الموت، وأنا أعض قطعة العشر دراخمات هذه قبل أن أشترى السجائر.. وانتظرت أن اسمع من الولد "لقد انتهت السجائر بالنسبة إليك.. إنتهى كل شيء".
اسوأ ما في الأمر عندئذ هو أنني سأكون غير مستعد.. وأن قطعة العملة هذه.. هي مجرد معبر.. قطعة عملة رخيصة.. رمز فان.. لكي أعبر إلى الجانب الآخر.
ومع ذلك، فإن ثمة أناس يذهبون وهم جاهزون تماما.. السيدة "كولا" مثلا، والتي زارت الأماكن المقدسة لمجرد أن تشتري اكفانها من هناك فقط. السيد "يواكيم".. جاهز من جميع الوجوه، والسبب الوحيد في تأخره، هو أنه سمع بأن قدما بشرية قد وطأت على القمر، فتأخرت نهايته.
عادة ما أفكر في إيميليا.. اصغر مني قليلا.. خمس علميات جراحية.. خمسة وثلاثون كليوغراما.. جلد على عظم. ولكن عينيها كانتا دائما هما هما.. طافحتين بنفس الإشعاع. وكبيرتين مثلما كانت في البداية.. تحدقان من نافذة المستشفى في اليوم السابق لوفاتها:
ـ عندما نعود إلى البيت يا "ساكي".. سنشتري غصن شجرة ورد.. هذا هو ما ينقصنا.
ـ نعم.. أجاب زوجها.. وفتش في جيبه باصابع مبتلة بالعرق.. معاملتها المنتهية من قبل المستشفى.. حساب التابوت..تصريح إخراج الميت.. اوراق خاصة بالطائرة.
ـ ساكي.. ربما ثمة حاجة إلى أوراق خاصة خاصة بشجرة الورد في الطائرة.
وقبل أن ترسل إلى غرفة العمليات مرة أخرى بقليل قالت:
ـ ليس على قبري.. اريدها للبيت.
كانت تعرف نهايتها.. وأنها سوف لن ترى ضوء النهار مرة أخرى، وحديقة شجيرات الورد.. والنجوم في السماء. ومع ذلك.. وحتى اللحظات الأخيرة في حياتها، وهي في طريقها إلى غرفة العمليات للمرة الثامنة، كانت تغني.. فيما رددت الردهات الصدى:
ـ متى تنجلي السحب.. السحب..
هذا بالطبع بالنسبة للآخرين، أما أنا.. فلقد تقيحت من عفونة زمني، بحيث لم تعد لدي الجرأة للقيام بأية حركة حتى لمجرد طرد ذبابة. ودع عنك أن أغني معطيا الأمل للآخرين. حتى مجرد حرف (و) لم يعد بإمكاني التفوه به من أجل الآخرين. أذكر كيف كنا نتعاون في بعض الشئون العامة انا وإيميليا. كنت أشبه ورقة ـ ليس ورقة ذكرى متيبسة بين صفحات كتاب ما ـ إنما ورقة خضراء.. بل شديدة الخضرة على شجرة، رطوبة وابتسامة. أشعر بأنني الآن قد عبرت جميع خطوط يدي، أو كما لو أنني قد انتهيت من عد أيامي كلها، ثم أترك ليغطيني الغبار.. العودة إلى الوراء لم تعد ممكنة، وأنا أجمع الأبيات من هنا وهناك.. حتى انني أقبل بأنني قد عشت بالفعل.. عشت وأنا أتقدم نحو النهاية، ودون أن يكون لدي ثلاثة امتار من قماش القطن، وبضعة دراخمات أمنحها للممرضين، وبيت شعر جيد ألقيه عندما اصل إلى البوابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق